فصل: في رياض آيات السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من مجازات القرآن في السورة الكريمة:

.قال ابن المثنى:

سورة التّحريم:
بِسْمِ الله الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما (4)} قد عدلت ومالت {والْملائِكةُ بعْد ذلِك ظهِيرٌ} العرب قد تجعل فعل الجميع على لفظ الواحد قال:
إن العواذل ليس لى بأمير

{قانِتاتٍ (5)} مطيعات..
{سائِحاتٍ (5)} صائمات..
{وكانتْ مِن الْقانِتِين (12)} مجاز لفظ خبرها مجاز الذكور إذا كان مع المؤنث مذكّر. اهـ.

.قال الشريف الرضي:

ومن السورة التي يذكر فيها التحريم:

.[سورة التحريم: آية 4]

{إِنْ تتُوبا إِلى الله فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما وإِنْ تظاهرا عليْهِ فإِنّ الله هُو موْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِين والْملائِكةُ بعْد ذلِك ظهِيرٌ (4)}.
قوله تعالى: {إِنْ تتُوبا إِلى الله فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما} [4] وهذه استعارة.
ومعنى {صغت قلوبكما}: أي مالت وانحرفت.
قال النضر بن شميل: يقال قد صغوت إليه وصغيت، وصغيت، وأصغيت إليه، وهو الكلام. ولم تمل قلوبهما على الحقيقة، وإنما اعتقد قلباهما خلاف الاستقامة في طاعة النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فحسن أن يوصف بميل القلبين من هذا الوجه.
وذلك كقول القائل: قد مال إلى فلان قلبى. إذا أحبه. وقد نفر عن فلان قلبى.
إذا أبغضه. والقلب في الأمرين جميعا بحاله، لم يخرج عن نياطه، ولم يزل عن مناطه.
وإنما قال سبحانه: قلوبكما، والخطاب مع امرأتين، لأن كل شيئين من شيئين تجوز العبارة عنهما بلفظ الجمع في عادة العرب. قال الراجز:
ومهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور التّرسين

وقال الله سبحانه في موضع آخر: {والسّارِقُ والسّارِقةُ فاقْطعُوا أيْدِيهُما} وإنما أراد سبحانه قطع يمين السارق، ويمين السارقة. وذلك مشهور في اللغة.

.[سورة التحريم: آية 8]

{يا أيُّها الّذِين آمنُوا تُوبُوا إِلى الله توْبة نصُوحا عسى ربُّكُمْ أنْ يُكفِّر عنْكُمْ سيِّئاتِكُمْ ويُدْخِلكُمْ جنّاتٍ تجْرِي مِنْ تحْتِها الْأنْهارُ يوْم لا يُخْزِي الله النّبِيّ والّذِين آمنُوا معهُ نُورُهُمْ يسْعى بيْن أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ يقولون ربّنا أتْمم لنا نُورنا واغْفِرْ لنا إِنّك على كُلِّ شيْ ءٍ قدِيرٌ (8)}.
وقوله سبحانه: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا تُوبُوا إِلى الله توْبة نصُوحا} [8] وهذه استعارة. لأن نصوحا من أسماء المبالغة. يقال: رجل نصوح. إذا كان كثير النصح لمن يستنصحه. وذلك غير متأت في صفة التوبة على الحقيقة. فنقول: إن المراد بذلك- والله أعلم- أنّ التوبة لما كانت بالغة غاية الاجتهاد في تلا في ذلك الذّنب، كانت كأنها بالغة غاية الاجتهاد في نصح صاحبها، ودلالته على طريق النجاة بها. فحسن أن تسمّى {نصوحا} من هذا الوجه.
وقال بعضهم: النّصوح: هي التوبة التي يناصح الإنسان فيها نفسه، ويبذل مجهوده في إخلاص الندم، والعزم على ترك معاودة الذنب. وقرأ أبو بكر بن عياش عن عاصم: {نصُوحا} بضم النون. على المصدر. وقرأ بقية السبعة {نصُوحا} بفتح النون على صفة التوبة.

.[سورة التحريم: آية 10]

{ضرب الله مثلا للذِين كفرُوا امْرأت نُوحٍ وامْرأت لُوطٍ كانتا تحْت عبْديْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحيْنِ فخانتاهُما فلمْ يُغْنِيا عنْهُما مِن الله شيْئا وقِيل ادْخُلا النّار مع الدّاخِلِين (10)}.
وقوله سبحانه: {ضرب الله مثلا للذِين كفرُوا امْرأت نُوحٍ وامْرأت لُوطٍ كانتا تحْت عبْديْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحيْنِ فخانتاهُما [10]} وهذه استعارة. لأن وصف المرأة بأنها تحت الرجل ليس يراد به حقيقة الفوق والتّحت، وإنما المراد أنّ منزلة المرأة منخفضة عن منزلة الرجل، لقيامه عليها، وغلبته على أمرها. كما قال سبحانه: {الرِّجالُ قوّامُون على النِّساءِ بِما فضّل الله بعْضهُمْ على بعْضٍ وبِما أنْفقُوا مِنْ أمْوالِهِمْ}. وكما يقول القائل: فلان الجندىّ تحت يدى فلان الأمير. إذا كان من شحنة عمله، أو متصرفا على أمره. وكما يقول الآخر: لا آخذ رزقى من تحت يدى فلان. إذا كان هو الذي يلى إطلاق رزقه، وتوفية مستحقه. وذلك مشهور في كلامهم. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة التحريم:
أمهات المؤمنين خيرة نساء الأمة وأعلاهن طهرا ومكانة وتقوى، وقد صحبن النبي الكريم وعاونه! على أداء رسالته وارتفعن إلى ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، وقد آخذهن الله بأمرين معروفين في السيرة: الأول، اتفاقهن على مطالبة النبي بالمزيد من النفقة، وضيقهن بالمعيشة الناشفة التي التزمها. وقد رضين جميعا بالبقاء معه عندما أكد لهن أنه ما بد من هذه الحياة لمن يريد الله ورسوله والدار الآخرة! أما الأمر الثانى فإن النبي كان لطيف العشرة لين الجانب دميث الأخلاق، فأطمع ذلك بعض نسائه في الجراءة عليه. وكانت الغيرة هي السبب، فزعمت إحداهن أنها شمت منه رائحة غير طبيعية، فقال: شربت عسلا عند زينب! فقالت: لعل نحله وقع على نبات سيئ. فقال: لا أعود إليه ولا تخبرى أحدا. ثم ظهر أن القصة مفتعلة، وأنها مؤامرة لتزهيده في فلانة!! وغضب الرسول لما وقع، وهجر نساءه جميعا حتى شاع أنه طلقهن! ونزلت سورة التحريم تطفئ هذه الفتنة وتؤدب من أحرج الرسول وأساء المسلك، وبدأت بالآية {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم...} والعلماء على أن تحريم الحلال يمين، وكفارته كفارة يمين، وليس لأحد أن يحزم ما أباح الله. ثم أومأ الوحى إلى القصة. والمفسرون يذكرون أن حفصة بنت عمر وعائشة بنت أبى بكر هما سبب ما حدث، والمعنيتان بقوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير}.
ومعنى {صغت قلوبكما} انحرفت وجدير بكما إصلاحها وإلا أصابكما ما يحبط عملكما ويعزلكما عن سائر الصالحين! ثم اتجه الخطاب إلى نساء النبي ينصحهن بالوعى والاعتدال وتقدير الأدب الرفيع الذي يعاملن به {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا}. إن الشمائل الجميلة الحلوة لصاحب الرسالة لا يسوغ أن تكون سببا في إزعاجه وإتعابه. وبيت النبوة ليس مسرحا للغيرة والتحاسد وإنما هو صومعة عبادة ومجال إقبال على الآخرة، وتفان في مرضاة الله. ولعل ما ختمت به السورة تلويح شديد القسوة لمن شاركن في إغضاب الرسول وأثرن الحزن في نفسه. إن امرأة نوح وامرأة لوط لم يساعدا رجالهما في إبلاع الدعوة، بل كانتا عونا لأعداء الله وخصوم الوحى {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين}. والخيانة المذكورة ليست في الناحية الجنسية، فتلك غضاضة يأباها الله على عباده المرسلين، وإنما هي خيانة الدعوة والهدف الأسمى من الحياة.. كانت لسقرأط امرأة سليطة تزدرى شخصه وتستهجن فلسفته وتنغص حياته! وكانت لنوح ولوط نسوة ينصرن أقاربهن ويخذلن أزواجهن ويكرهن الله ورسله! فجعلهن الله مع الكفار في مصير واحد {وقيل ادخلا النار مع الداخلين}. والمسئولية الشخصية أساس الحساب في الإسلام فلا يغنى والد عن ولد ولا زوج عن زوجة. وسيدخل فرعون النار وتفوز امرأته بالجنة لا يمسها من عمله شيء. وبين أوائل السورة وخواتيمها، طلب الله من أرباب الأمر أن يرقبوا بيوتهم ويجعلوها مهادا للنعيم المقيم وحجابا عن العذاب الشديد {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة...}. ثم بين جل شأنه أن الله لم يكلف الناس بالعصمة فلا يخطئوا أبدا، بل أمرهم إذا أخطئوا أن يثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا إلى ربهم ويستفيدوا من التجارب ما يرزقهم الصواب ويحصنهم من الانزلاق {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا...} والتوبة النصوح هي التي تصنع ضميرا آمرا بالخير زاجرا عن الشر مذكرا بالله.
ومما يذكر هنا أن بعض المستشرقين استنكر على الوحى الإلهى أن يعنى بنزاع ثار في بيت محمد، وأن يشغل الناس به. وقد سرد الدكتور محمد حسين هيكل الشبهة ثم قال: أليست القصة أولى بالذكر مما أورده الكتاب المقدس عن زنى لوط بابنتيه بعدما أسكرتاه وأفقدتاه الوعى؟ ونقولى نحن: أوليست أولى بالذكر من زنى أحد الأنبياء بامرأة ابنه، والثمن الذي دفعه في هذه الفعلة الشنعاء.. إن المستشرقين يلمحون القشة في عيون الآخرين ولا يحسون الخشبة في عيونهم. ولله في خلقه شئون. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة التحريم:
أقول: هذه السورة متآخية مع التي قبلها بالافتتاح بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك مشتملة على طلاق النساء، وهذه على تحريم الإيلاء وبينهما من المناسبة مالا يخفى ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة، ذكر في هذه خصومة نساء النبي صلى الله عليه وسلم، إعظاما لمنصهن أن يذكرن مع سائر النسوة، فأفردن بسورة خاصة، ولهذا ختمت بذكر امرأتين في الجنة: آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 3):

قوله تعالى: {يا أيُّها النّبِيُّ لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك تبْتغِي مرْضات أزْواجِك والله غفُورٌ رحِيمٌ (1) قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيْمانِكُمْ والله موْلاكُمْ وهُو الْعلِيمُ الْحكِيمُ (2) وإِذْ أسرّ النّبِيُّ إِلى بعْضِ أزْواجِهِ حديثا فلمّا نبّأتْ بِهِ وأظْهرهُ الله عليْهِ عرّف بعْضهُ وأعْرض عنْ بعْضٍ فلمّا نبّأها بِهِ قالتْ منْ أنْبأك هذا قال نبّأنِي الْعلِيمُ الْخبِيرُ (3)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
(بسم الله) الذي له الكمال كله على الدوام (الرحمن) الذي عم عباده بعظيم الإنعام (الرحيم) الذي أتم خواصه نعمة الإسلام.
لما ختم سبحانه الطلاق بإحاطة علمه وتنزل أمره بين الخافقين في تدبيره، دل عليه أول هذه بإعلاء أمور الخلق بأمر وقع بين خير خلقه وبين نسائه اللاتي من خير النساء واجتهد كل في إخفاء ما تعلق به منه فأظهره سبحانه عتابا لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم في صورة عقابه لأنه أبلغ رفقا به لأنه يكاد من شفقته أن يبخع نفسه الشريفة رحمة لأمته تارة لطلب رضاهم وأخرى رغبة في هداهم، لأنه صلى الله عليه وسلم بالغ في تهذيب أخلاقه مع ما طهره الله به من نزاهتها عن كل دنس حتى ضيق عليها بالامتناع عن بعض ما أبيح له حفظا لخاطر الغير، فقال تعالى مناديا له بأداة البعد وهو أقرب أهل الحضرة مع أنها معدة لما يكون ذا خطب جليل ومعنى جسيم جليل، وفيها إيماء إلى تنبيه الغير وإسماعه إرادة لتأديبه وتزكيته وتهذيبه: {يا أيها النبي} مخاطبة بالوصف الذي يعلم بالعصمة ويلائمه أشد الملاءمة خلو البال وسرور القلب وانشراح الصدر لأنه للتلقي عن الله تعالى فيحث كل سامع على البعد عن كل ما يشوش عليه صلى الله عليه وسلم أدنى تشويش {لم تحرم} أي تفعل فعل المحرم بمنع نفسك الشريفة {ما أحل الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه {لك} بالوعد لبعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بالامتناع من شرب العسل الذي كان عند حفصة أو زينب- رضى الله عنهما- والامتناع من ملامسة سريتك مارية رضي الله تعالى عنها فتضيق على نفسك لإحسان العشرة مع نسائك رضي الله عنهن أجمعين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب عسلا عند حفصة بنت عمر أو زينت بنت جحش- رضى الله عنهما- على اختلاف الروايتين في ذلك في الصحيح، وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة دخل على نسائه رضي الله عنهن امرأة امرأة، وكانت قد أهديت لحفصة بنت عمر- رضى الله عنهما- عكة من العسل، فكانت إذا دخل عليها فسلم حبسته وسقته منها، وأن عائشة رضي الله عنها أنكرت احتباسه عندها فقالت لجويرية عندها حبشية يقال لها خصرة: إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة فادخلي عليها فانظري ماذا يصنع فأخبرتها الخبر فوصت صواحباتها فنفرنه من شربه بإخباره بأنه يوجد منه ريح كريهة لأن نحلة جرست العرفط، فقال: لن أعود له».
وروى الطبري وابن مردوية «أنه صلى الله عليه وسلم خلا بمارية رضي الله عنها أم ولده إبراهيم عليه السلام في بيت حفصة رضي الله عنها فتوجعت من ذلك حفصة رضي الله عنها فقال هي علي حرام ولا تذكري ذلك لأحد وأبشرك على ذلك بشارة، وهي أن أبا بكر يلي هذا الأمر من بعدي وأباك يليه من بعد أبي بكر رضي الله عنهما، لا تخبري بذلك أحدا، فأخبرت عائشة رضي الله عنها»
ويروى أن حفصة رضي الله عنها قالت في يومها من النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بي إلى أبي حاجة نفقة له عنده فأذن لي أن أزوره وآتي بها، فأذن لها فلما خرجت أرسل إلى جاريته مارية القبطية رضي الله عنها فوقع عليها فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا فجلست عنده فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقا وحفصة تبكي فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت لي من أجل هذا وقعت عليها في يومي وعلى فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقا ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن، فقال صلى الله عليه وسلم: أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي اسكتي فهي علي حرام ألتمس بذاك رضاك فلا تخبري بهذا أحدا، فلما خرج أخبرت عائشة رضي الله عنها فحلفته على ترك مارية رضي الله عنهن» ثم علل ذلك سبحانه بقوله: {تبتغي} أي تريد إرادة عظيمة من مكارم أخلاقك وحسن صحبتك {مرضات أزواجك} أي الأحوال والمواضع والأمور التي يرضين بها ومن أولى بأن تبتغين رضاك وكذا جميع الخلق لتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد.
ولما كان أعلى ما يقع به المنع من الأشياء من جهة العباد الإيمان، وكان تعالى قد جعل من رحمته لعباده لإيمانهم كفارة قال: {والله} أي تفعل ذلك لرضاهن والحال أن الله الملك الأعلى {غفور رحيم} أي محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم، ثم علل أو بين بقوله: {قد فرض الله} أي قدر ذو الجلال والإكرام الذي لا شريك له ولا أمر لأحد معه، وعبر بالفرض حثا على قبول الرخصة إشارة إلى أن ذلك لا يقدح في الورع ولا يخل بحرمة اسم الله لأن أهل الهمم العوالي لا يحبون النقلة من عزيمة إلى رخصة بل من رخصة إلى عزيمة، أو عزيمة إلى مثلها.
ولما كان التخفيف على هذه الأمة إنما هو كرما منه وتعظيما لهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لكم} أي أيتها الأمة التي أنت رأسها، وعبر بمصدر حلل المزيد مثل كرمه وتكرمه إظهارا لمزيد الغاية فقال: {تحلة} أي تحللة {أيمانكم} أي شيئا يحللكم مما أوثقتم به أنفسكم منها تارة بالاستثناء وتارة بالكفارة تحليلا عظيما بحيث يعيد الحال إلى ما كان عليه قبل اليمين، وقد بين ذلك في سورة المائدة فحلل يمينك واخرج من تضييقك على نفسك واشرح من صدرك لتتلقى ما يأتيك من أنباء الله تعالى وأنت متفرغ له بطيب النفس وقرة العين، وهذا يدل على أن قوله «أنت علي حرام» كاليمين إذا لم يقصد به طلاقا للزوجة ولا إعتاقا للأمة، وإذا كان الله قد فرض ذلك لكافة الأمة تيسيرا عليهم فرأسهم أولى بأن يجعل له ذلك، قال مقاتل: فأعتق صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة رقبة، وقد قيل: إن تحريمه صلى الله عليه وسلم هنا كان بيمين حلفها وحينئذ لا يكون فيه حجة لمن رأى أن «أنت على حرام» يمين {والله} أي والحال أن المختص بأوصاف الكمال {مولاكم} أي يفعل معكم فعل القريب الصديق {العليم} أي البالغ العلم بمصالحكم وغيرها إلى ما لا نهاية له {الحكيم} أي الذي يضع كل ما يصدر عنه لكم في أتقن محاله بحيث لا ينسخه هو ولا يقدر غيره أن يغيره ولا شيئا منه، وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لاخفاء بشدة اتصال هذه السورة بسورة الطلاق لاتحاد مرماهما وتقارب معناهما، وقد ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه حين اعتزل في المشربة حتى سأله عمر-رضي الله عنه- والقصة معروفة وتخييره صل الله عليه وسلم إياهن أثر ذلك وبعد اعتزالهن شهرا كاملا وعتب الله عليهن في قوله: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه} [التحريم: 4] وقوله: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن} [التحريم: 5] فهذه السورة وسورة الطلاق أقرب شيء وأشبه بسورة الأنفال وبراءة لتقارب المعاني والتحام المقاصد- انتهى.
ولما كانت العدة فيمن رأى حبيبه قد ضاق صدره أن يسعى أولا في شرح صدره وطيب نفسه ثم يزيده بسطا بأن يقول للحاضرين: إن حبيبنا هذا الكريم علينا اتفق له كذا، وقد كرهت هذا وضمنت زواله، وكان تعالى قد طيب نفسه صلى الله عليه وسلم بأول السورة، ثم أتبعه الأمر الآخر، فكان التقدير: اذكروا هذا الذي ذكرته من حسن عشرة نبيكم صلى الله عليه وسلم لنسائه رضي الله تعالى عنهن وكريم صحبته وشريف أخلاقه وجميل أفضاله وجليل حلمه واذكروا ما خفف الله به عنكم في الأيمان التي لا مثنوية فيها واذكروا فيها اسمه المقدس، عطف عليه قوله تعالى تشريفا لنبيه صلى الله عليه وسلم بالمعاتبة عليه وبإظهار ما هو حامل له من ثقل هذا السر على أجمل وجه تخفيفا عنه وترويحا له: {وإذ} أي واذكروا كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم وطاهر شمائله في عشرتهن حين {أسر النبي} أي الذي شأنه أن يرفعه الله دائما بأن يتلقى من فياض علمه ما يخبر به الناس فإنه ما ينطق عن الهوى وأبهم الزوجة ولم يعينها سبحانه تشريفا له صلى الله عليه وسلم ولها رضي الله عنهن فقال تعالى: {إلى بعض أزواجه} وهي حفصة-رضي الله عنها-، كنى عنها صيانة لهن لأن حرمتهن-رضي الله عنهن من حرمته صلى الله عليه وسلم {حديثا} ليس هو من شأن الرسالة ولو كان من شأنها لهم به وأعلنه ولم يخص به ولا أسره وذلك هو تحريم مارية رضي الله عنها ووعده بأن يترك العسل وبشارته بولاية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يبين الحديث ويفصله إكراما له صلى الله عليه وسلم وحفظا لسره لأن العادة جارية بأن الإنسان لا يحب تفصيل سره وإن كنا اطلعنا عليه بعد ذلك لنتأسى به فيما فيه من الأحكام، فإن أحواله صلى الله عليه وسلم كلها أحكام لنا إلا ما اختص به وأشار إلى قرب زمن إفشائه من زمن التحديث بالفاء في قوله تعالى: {فلما نبأت} أي أخبرت إخبارا عظيما جليلا لشرفه في نفسه ولأنه من عند الله وبالغت في ذلك وأخبرت {به} كله من جميع وجوهه، وجعل ذلك في سياق حكاية لأنه أستر لحرمه صلى الله عليه وسلم حيث لم يقل: فنبأت به ولا قال: أساءت بالإنباء به، ونحو ذلك مما يفهم أنه مقصود بالذات {وأظهره الله} أي أطلعه الملك الذي له الإحاطة بكل شيء {عليه} أي الحديث بأنه قد أفشى مناصحة له في إعلامه بما يقع في غيبته ليحذره إن كان شرا ويثيب عليه إن كان خيرا {عرف} أي النبي صلى الله عليه وسلم التي أسر إليها {بعضه} وهو أمر الخلافة عتابا لها عليه لأنه كان أوصاها أن لا تظهره، والكف عن بعض العتب أبعث على حياء المعتوب وأعون على توبته وعدم عدده إلى فعل مثله {وأعرض عن بعض} وهو أمر السرية والعسل تكرما منه أن يستقصي في العتاب وحياء وحسن عشرة، قال الحسن: ما استقصى كريم قط، وقال سفيان الثوري: ما زال التغافل من فعل الكبراء وإنما عاتب على أمر الخلافة خوفا من أن ينتشر في الناس ويذيع، فربما أثار حسدا من بعض المنافقين وأورث الحسود للصديق والفاروق كيدا أو جر إلى مفسدة لا نعلمها، وخفف الكسائي: عرف أي أقر به والمعرفة سبب التعريف والتعريف عن المعرفة فإطلاق أحدهما على الآخر شائع وعلاقته ذلك وأشار إلى مبادرته بتعريفها ذلك لئلا ينتشر ما يكرهه منه بقوله: {فلما نبأها} بما فعلت من إفشاء ما عرفها منه على وجه لم يغادر من ذلك الذي عرفها {به} شيئا منه ولا من عوارضه ليزداد بصيرة، روي أنها قالت: قلت لعائشة رضي الله عنها سرا وأنا أعلم أنها لا تظهره، قاله الملوي وهو معنى قوله: {قالت} أي ظنا منها أن عائشة رضي الله عنها أفشت عليها {من أنبأك هذا} أي مطلق إخبار، واستأنف قوله: {قال نبأني} وحذف المتعلق اختصارا للفظ وتكثيرا للمعنى بالتعميم إشارة إلى أنه أخبره بجميع ما دار بينها وبين عائشة رضي الله عنهما مما عرفها به ومن غيره على أتم ما كان {العليم} أي المحيط بالعلم {الخبير} أي المطلع على الضمائر والظواهر فهو أهل لأن يحذر فلا يتكلم سرا ولا جهرا إلا بما يرضيه. اهـ.